فصل: تفسير الآيات (126- 127):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النكت والعيون المشهور بـ «تفسير الماوردي»



.تفسير الآيات (126- 127):

{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)}
قوله عز وجل: {وَهَذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} قد ذكرنا أن الصراط هو الطريق، ومنه قول عامر ابن الطفيل:
شحنا أرضهم بالخيل حتى ** تركناهم أذل من الصراط

وفيه ها هنا قولان:
أحدهما: يريد أن الإِسلام هو الصراط المستقيم إلى الله تعالى، قاله الكلبي.
والثاني: يريد أن ما في القرآن من البيان هو الصراط المستقيم.
{قَدْ فَصَّلْنَا} يحتمل وجهين:
أحدهما: بيَّنَّا.
والثاني: ميَّزنا.
قوله عز وجل: {لَهُم دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ} وهي الجنة، وفي تسميتها دار السلام وجهان:
أحدهما: لأنها دار السلامة الدائمة من كل آفة، قاله الزجاج.
والثاني: أن السلام هو الله، والجنة داره، فلذلك سُمِّيَتْ دار السلام، وهذا معنى قول الحسن، والسدي.
وفي قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} وجهان:
أحدهما: أن دار السلام عند ربهم في الآخرة لأنها أخص به.
والثاني: معناه أن لهم عن ربهم أن ينزلهم دار السلام.
{وُهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: وهو ناصرهم في الدنيا على إيمانهم.
والثاني: وهو المتولِّي لثوابهم في الآخرة على أعمالهم.

.تفسير الآية رقم (128):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}
قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يعني يحشر الجن والإنس جميعاً يوم القيامة.
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنسِ} فيه قولان:
أحدهما: قد استكثرتم من إغوئهم وإضلالهم، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.
والثاني قد استكثرتم من الإنس بإغوائكم لهم.
{وَقَالَ أَولِيَاؤُهُمْ مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَغْضٍ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: معناه استمتع بعضنا بصحبة بعض في التعاون والتعاضد.
والثاني: استمتع بعضنا ببعض فيما زينوه من اتباع الأهواء وارتكاب المعاصي.
والثالث: أن الاستمتاع بهم ما كانوا عليه من التعوذ بهم كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ}، قال الحسن، وابن جريج. ثم فيه وجهان:
أحدهما: أنه استمتاع الإنس بالجن.
والثاني: أنه استمتاع الإنس بعضهم ببعض.
وفيه وجه ثالث: أن الإنس استمتعوا بالجن، والجن استمتعوا بالإنس في اعتقادهم أنهم يقدرون على النفع.
{وَبَلَغْنآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} فيه قولان:
أحدهما: أنه الموت، قاله الحسن، والسدي.
والثاني: الحشر.
{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} أي منزل إقامتكم، لأن المثوى الإقامة، ومنه قول الشاعر:
لقد كان في حول ثواءً ثويته ** تقضي لبانات وتسأم سائم

{خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} في {إِلاَّ} في هذا الموضوع ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بمعنى لكن، قاله سيبويه.
والثاني: أنها بمعنى سوى، قاله الفراء.
والثالث: أنها مستعملة على حقيقتها، وهو قول الجمهور.
وفي هذا الاستثناء ثلاثة أقاويل.
أحدها: أن مدة الاستثناء هي مدة العرض في القيامة وذلك ما بين بعثهم من قبورهم إلى حين مصيرهم إلى جهنم، فكأنه قال: النار مثواكم خالدين فيها إلا هذه المدة التي ذكرها، فإنهم فيها غير خالدين في النار.
والثاني: معناه خالدين فيها إلا ما شاء الله من تجديد جلودهم بعد إحراقها وتصريفهم في أنواع العذاب أو تركهم فيها على حالتهم الأولى، فيكون الاستثناء في صفة العذاب لا في الخلود في النار.
والثالث: أنه جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدته إلى مشيئته تعالى، قاله ابن عباس، قال: ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.

.تفسير الآية رقم (129):

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)}
قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِِمِينَ بَعْضاً} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: معناه وكذلك نَكِلُ بعضهم إلى بعض، فلا نعينهم، ومن سُلِبَ معونة الله كان هالكاً.
والثاني: وكذلك نجعل بعضهم لبعض ولياً على الكفر.
والثالث: وكذلك نولِّي بعضهم عذاب بعض في النار.
والرابع معناه أن بعضهم يتبع بعضاً في النار من الموالاة وهي المتابعة، قاله قتادة.
والخامس: تسليط بعضهم على بعض بالظلم والتعدي، قاله ابن زيد.

.تفسير الآية رقم (130):

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)}
قوله عز وجل: {يَا مَعشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} المعشر: الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف، ومنه قيل للعَشَرَة لأنها تمام العِقْد.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلُ مِنْكُمْ يَقُصُّون عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي} اختلفوا في الرسالة إلى الجن على ثلاثة أقاويل.
أحدها: ان الله بعث إلى الجن رسلاً منهم، كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم، قاله الضحاك وهو ظاهر الكلام.
والثاني: أن الله لم يبعث إليهم رسلاً منهم، وإنما جاءتهم رسل الإنس، قاله ابن جريج، والفراء، والزجاج، ولا يكون الجمع في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنُكُمْ} مانعاً من أن يكون الرسل من أحد الفريقين، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما هو خارج من أحدهما.
والثالث: أن رسل الجن هم الذين لمَّا سمعوا القرآن {وَلَّواْ إِلَى قَومِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، قاله ابن عباس.
وفي دخولهم الجنة قولان:
أحدهما: قاله الضحاك.
والثاني: أن ثوابهم أن يجاروا من النار، ثم يُقَال لهم كونوا تراباً كالبهائم، حكاه سفيان عن ليث.
{وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} يحتمل وجهين:
أحدهما: ينذرونكم خذلان بعضكم لبعض وتبرؤ بعضكم من بعض في يوم القيامة.
والثاني: ينذرونكم ما تلقونه فيه من العذاب على الكفر، والعقاب على المعاصي.
{قالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} يحتمل وجهين:
أحدهما: إقرارهم على أنفسهم بأن الرسل قد أنذروهم.
والثاني: شهادة بعضهم على بعض بإنذار الرسل لهم.
{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فيه وجهان:
أحدهما: وغرتهم زينة الحياة الدنيا.
والثاني: وغرتهم الرياسة في الدنيا.
ويحتمل ثالثاً: وغرتهم حياتهم في الدنيا حين أمهلوا.
{وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم} وفي هذه الشهادة أيضاً الوجهان المحتملان إلا أن تلك شهادة بالإنذار وهذا بالكفر.

.تفسير الآيات (131- 132):

{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}
قوله تعالى: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: وما كان ربك مهلك القرى بظلم منه ولكن بحق استوجبوا به الهلكة، وهو معنى قول مقاتل.
والثاني: وما كان ربك مهلك القرى بظلم أهلها حتى يقدم إنذارهم ويرفع أعذارهم ويخرجوا من حكم الغافلين فيما ينزل بهم، وهو معنى قول مجاهد.
قوله عز وجل: {وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} معناه ولكل عامل بطاعة الله أو معصيته درجات، يعني منازل، وإنما سُمِّيت درجات لتفاضلها كتفاضل الدَرَجِ في الارتفاع والانحطاط.
وفيها وجهان:
أحدهما: أن المقصود بها الأعمال المتفاضلة.
والثاني: أن المقصور بها الجزاء المتفاضل.
ويحتمل هذا التفضيل بالدرجات على أهل الجنة، وأهل النار، لأن أهل النار يَتفاضلون في العقاب بحسب تفاضلهم في السيئات، كما يتفاضل أهل الجنة في الثواب لتفاضلهم في الحسنات، لكن قد يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدَرَج، وعن تفاضل أهل النار بالدرك، فإذا جمع بينهما بالتفاضل عبر عن تفاضلهما بالدرج تغليباً لصفة أهل الجنة.

.تفسير الآيات (133- 135):

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}
قوله عز وجل: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُم} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: على طريقتكم.
والثاني: على حالتكم.
والثالث: على ناحيتكم، قاله ابن عباس، والحسن.
والرابع: على تمكنكم، قاله الزجاج.
والخامس: على منازلكم، قاله الكلبي.
{إِنِّي عَامِلٌ} يعني أنذركم من جزاء المطيع بالثواب، والعاصي بالعقاب.
{فَسَوفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونَ لَهُ عاقِبَةٌ الدَّارِ} فيه وجهان:
أحدهما: تعلمون ثواب الآخرة بالإيمان، وعقابها بالكفر ترغيباً منه في ثوابه وتحذيراُ من عقابه.
والثاني: تعلمون نصر الله في الدنيا لأوليائه، وخذلانه لأعدائه، قاله ابن بحر.

.تفسير الآية رقم (136):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)}
قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً}
{مِمَّا ذَرَأَ} مما خلق، مأخوذ من الظهور، ومنه قيل ملح ذُرْ أي لبياضه، وقيل لظهور الشيب ذُرْأَة، والحرث: الزرع، والأنعام: الإبل والبقر والغنم، مأخوذ من نعمة الوطء.
وهذا إخبار منه عن كفار قريش ومن تابعهم من مشركي العرب، كانوا يجعلون لله في زروعهم ومواشيهم نصيباً، ولأوثانهم وأصنامهم نصيباً، فجعل الله أوثانهم شركاءهم؛ لأنهم قد أشركوهم في أموالهم بالنصيب الذي قد جعلوه فيها لهم، ونصيبهم في الزرع جزء منها يجعلونه مصروفاً في النفقة عليها وعلى خدامها.
وفي نصيبهم من الأنعام ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه كنصيبهم من الزرع مصروف في النفقة عليها وعلى خدامها.
والثاني: أنه قربان لأوثانهم كانوا يتقربون به إليها.
والثالث: أنه البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.
ثم قال تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِم فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} فاختلف أهل التأويل في المراد بذلك على أربعة أوجه:
أحدها: أنه كان إذا اختلط بأموالهم شيء مما جعلوه لأوثانهم، ردوه، وإذا اختلط بها ما جعلوه لله لم يردوه، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنه كان إذا هلك ما لأوثانهم غرموه، وإذا هلك ما لله لم يغرموه، قاله الحسن، والسدي.
والثالث: أنهم كانوا يصرفون بعض ما جعلوه لله في النفقة على أوثانهم ولا يفعلون مثل ذلك فيما جعلوه لأوثانهم، قاله بعض المتأخرين.
والرابع: أن كل شيء جعلوه لله من ذبائحهم لم يأكلوه حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم، ولا يذكرون اسم الله فيما جعلوه لأوثانهم، قاله ابن زيد.